ثمّة قوة دافعة سرّها الفخر والحزن معاً، وأنت تكتب بمداد الحبّ للسيّد الشهيد حسن نصر الله. ليس حباً عادياً لكن غير العادي أنه حب يجمع بين علاقتين، تلك التي ترتبط بالسيّد كموقف وحقيقةٍ ماثلة عنوانها ثبات الرّجال في زمن عز فيه الرّجال القابضين على جمر المحن في عصر التخاذُل. وأخرى، يبثّها محيّا السيّد، صوته، كلماته، إشارته، هنا تشعر بأنّ علاقةً شخصيةً بات أثيرُها أسيرُ هالة العشق في رجلٍ ليس كأحد مبتدؤها عنده وكذلك منتهاها، واقعاً وبالتحديد، حيث لا يتجزأ الحُبّ بكل سحر معانيه وقدرته.
وككل البدايات، الأصل هو الفكرة، المقاومة فكرة لكنها في عقول أهلها الأوفياء تصبح منظومة، من هذه النقطة صار السيّد، والصيرورة هنا سابقة على ما يلازمها من سيرورة، منظومة عقائديّة ورمزاً لكل الأزمان، فكيف تلك التي شقّ فيها نوراً في غياهب دُجى ظلام العصر، حينما قعد الكثيرون ينأون بأنفسهم عن إشعال شمعة، ويصبّون الشتائم على ليلهم السقيم. وكأن الاحتلال قدرٌ لا مفرّ منه. وعندها أتت المقاومة وأتى معها السيّد، بكل ما للحضور من معنىً وقيم وعِبرة، ليكتب في التاريخ أنّ النور كامنٌ في القدرة، في إرادة الحياة ولو أطبق الموت بكل ألوانه على من أراد الحياة، ذاك الانبلاج لا يدركه إلا من عرِف أن لا موت بعد الموت، وإن غفا جفن السُّهى الذي نرى فيه المصداق الشامل لمعاني الفداء والتضحية وسمو الرسالة وطُهر العقيدة.
مع السيّد، أصبح للنصر طعمٌ آخر، معنى جديد، وقع خاص، تجدهُ يختزل التاريخ في خُطبه يقدّمه لأسماع البسطاء قبل العارفين بمدارك السياسة. لا تذوب كلماته في مغبّة التركيب الباحث عن المعنى، بل يتحضّر المعنى ويسبق اللفظ، ولعل سرّ التخاطُب الدلاليّ كامن في هذه الجزئية تحديداً. قد يبدو للأسماع بسيطاً، لكنّه في قمّة الإبداع العابر للأوصاف، وتلك قدرة، أسرَت قلوب المحبّين، المُريدين، والفاهمين على اختلاف تنوّعاتهم..
مع السيّد تعلّمنا كيف للقوة أن تكون هي ضامن العيش بكرامة، وما معنى أن تكون قوياً في عصر من يعتبر أن قوة “إسرائيل” هي من ذاتيتها، لا لضعف من اقتنع بقوتها. أثبتت التجربة العملانية التي اضطلع بها السيد بالمقاومة الإسلامية وتطوير قدرتها وقوتها الإقليمية الوازنة، كتجربة فريدة لم تستأثر نصرها، بل كانت دائماً ما تقرؤه جولة تسلسلية في الصراع مع العدو الإسرائيلي ومن خلفه المشروع الأمريكي – الصهيوني بعنوانه العريض ومفاهيمه المتعددة، بأن “إسرائيل” هي فعلاً أوهن من بيت العنكبوت.
ليس خطاباً عادياً، بل معنى بلاغي دلاليّ يؤصّل جدوى المقاومة كفكرة قبل أن تكون فعلاً عسكرياً وسياسياً. ذلك أن الحامل الأساس للمشروع الصهيوني قائم على التناقُض، ومن هنا رأينا كيف أنّ المقاومة في فلسطين ولبنان، بل وكمشروع متكامل، تخوضُ بتضحياتها هذا التفصيل المهم من مراحل المعركة.
فالمعركة مع العدو أقرب ما تكون معركة الإثبات في وجه النفي. ولنا في أضخم مزية شهدها التاريخ الحديث والتي وضع السيّد فيها بصمته الأبرز “طوفان الأقصى” الكثير، الكثير من تلمُّس خطوط التفكير، وأساسات مفاهيم الصراع مع مشاريع الهيمنة والاستبداد، الطُوفان الذي أكّد ما حسمه السيّد سلفاً، بواهنية “إسرائيل”؛ لأن الطُوفان أثبت قاعدة أساسية غطّى الكثيرون أعينهم عنها، وهي أن المشروع الصهيوني بذاتيته القائمة على “الغش المصقول” ليس له استقلالية حركية، ولا حركة مستقلة ذاتية. يكفي أن نرسم في مخيلنا مصير الكيان لولا دعم صنّاعه أمام غزة التي لبَّتها لبنان واليمن وإيران، وقبل كل شيء، أبناؤها. كما نتحقّق من جدوى المقاومة الثابتة في مواجهة المنفي أصولاً.
كان السيّد وكما في شهادته اليوم، حقيقة ماثلة أمام أعيننا وحاضرة في وعينا. كانت عظمته تكمن في أنه كان واحداً منّا، كما كنّا منه، من حيث نشعر أو لا نشعر، الأب العطوف، القائد الفذّ، النموذج الحي، وهو ينثر صداه على الملأ متألّقاً، السيّد، الذي ارتقى لحضرته المعنى، وهو يغزل من الشمس حكاية سكون المنتهى في مدارج الكمال والأثر.
ما نعرفه أن السيّد ارتقى، مضى حيث يحبّ هو ويتمنّى، ولكن ما يُحبّ أن نعرفه أن المسيرة لم ولن تنتهي، تلك وصايا العظماء، الأكبر في حكاياهم من رواية أو قصةٍ أو أسطورة، تلك جميعها تكون بنهايات، أمّا مصافّ الأبطال الخالدين لا تنتهي حكاياهم، فكيف يكون ذلك ومدادها الدّم في الوريد المذبوح..؟
هذا هو السيّد الذي نحبّ.
المصدر: موقع المنار